حلم ليلة ترجمة

بعد عناء ليلة قضيتها وأنا أترجم منكبًا على مكتبي، شاخصًا بصري نحو شاشة صغيرة تصوّب أشعتها على أعين قد أُرهقت، وجفون قد ارتخت، جالسًا على مقعد أوهن عظمي ضعفًا وزاد عمودي الفِقري فَقرًا، نظرت إلى سريري الذي يشكو هجري وانعزالي وما صار إليه مآلي، ولسان حالي يقول:
ما أغـنتْ كثـرةُ العــملِ ذا حــاجـةٍ *** ولا قتّـرتْ في الأرزاقِ قلــةُ النـومِ
فاخلدْ إلى نُعاسٍ تُرِحْ به جسدًا *** وغدًا لا ريبَ تنجز مُستهدفَ اليومِ
عند ذلك قررت أن أفصل أجهزتي وأترك قهوتي وأفترش وسادتي وألتحف بطانيتي، وقلت لنفسي إن لعينك عليك حقاً، ومواصلة الليل بالنهار لن تضمن لك رزقًا، فقليل من الراحة لن يضر، بل يُرجى أن يدفع عنك معظم الشر، فسارع إلى أخذ غفوة قصيرة تجدد بها همتك وتستعيد بها قوتك وتكمل بها عملك.
لكن ما إن فكرت في موعد تسليم عملي صباح الغد حتى سمعت صوتًا جاء من أعماق نفسي يهزني وينهرني، قلت لا عليك، استعذ بالله من تلك التهيؤات إنما هي هلوسات وتخوفات، وما بقي لديك هو مراجعة فقط تنتهي منها سريعًا أيها البطل وتنجزها على عجل.
وما أن أغمضت عيني حتى رأيت في منامي رجلًا وقورًا عليه سمت الحكمة وإطلالة الخبرة، فقلت له من أنت يرحمك الله؟ فقال: مُترْجِم مثلك قد بلغ من العمر عتيًا، لكنه اعتزل المهنة وقرر أن يكون فيلسوفًا معروفًا، وأصبح جُل همّه عدّ النجوم بدلا من عدّ الكلمات، ومصاحبة الليالي بدلا من البحث عن المصاحبات اللغوية، وإقالة عثرات نفسه بدلا من تتبع الأخطاء والزلّات وتصحيح العلامات وتنقيح العبارات وإجادة إنجاز الترجمة بالأدوات.
فقلت: يا فيلسوف علمّني مما عُلمت رشدًا، قال يا بني لستُ بِخضْر الترجمة ولا عنانها، ولكن سأعطيك سؤلك، قلت إذن بما تجيبني إذا سألتك عن حقيقة صنعة الترجمة؟
فرد الفيلسوف قائلًا: الترجمة طريق كثير العقبات، متعدد الدرجات، ولا يخلو من الزلل والهفوات وما بينهما من نصب واحتيالات. إن أردت مني وصفًا وبيانًا، فألقِ إليّ منك سمعًا وآذانًا، واعلم أن الترجمة مراتب ومنازل، وأخطاؤها أحيانا كوارث ونوازل، وهي ليست بحرفة مقاول، ولا بمهنة مناول، قد تعثر في غيرها وجاء ليدلو بدلوه ويجرب حظه ويحاول، الترجمة يا بنيّ علم وفن ودراسة وأدب وخلق، ودرجاتها كما يلي:
أدناها: إتقان لغتين إتقانًا تامًا يشمل الإلمام بالمعنى والمبنى وفهم الأساليب والتراكيب ونقل المعاني دون زيادة أو نقصان مصحوبة بحسن البيان ودقة التبيان.
أوسطها: مواصلة البحث والتعلم من غير كلل أو ملل، والتواضع لكل من قصدك أو سأل، ومعرفة أن فوق كل ذي علم عليم، وإن أصابك كبر فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واعلم أنك قد حدت عن الطريق القويم.
أسماها: الإبداع والإمتاع وأصالة اللغة وجزالة العبارة وسلاسة الأفكار وكياسة الصياغة وإجادة التخصص واستحالة التفرقة بين نص مُترجَم وعمل مُؤلَف.
وفجأة نهضت من نومي لأجد الشمس في كبد السماء، وسيل منهمر من مكالمات العملاء، ورسالة باللون الأحمر تبدي عظيم الاستياء، تقول:
من العميل/ فلان إلى المترجم / الكسلان: شكرًا على أحلامك الجميلة معنا طوال العام الماضي ويؤسفنا عدم التعاون معك في أي مشروع أو موضوع، مع خالص تمنياتنا لك بأحلام هادئة وهانئة في فصل الشتاء القادم.